في رحاب النبي وآل بيته الطاهرين -
4 - الزهراء ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم
لقد أحبت الزهراء أباها النبي حبا جما ، فقد كان بالنسبة لها النبع المتدفق لا بعد وفاة أمها الأب الشفوق والأم الرؤوف ثم كان لها بعد البعثة أبا ونبيا ، والدا ورسولا فكانت تحبه حب البنت البارة بأبيها وحب المسلمة الصادقة لنبيها فهو الأب وهو النبي ومن ثم فقد بكته ، حين انتقل إلى الرفيق الأعلى بقدر حبه لها وحزنت عليه بقدر تعلقها به ، وزرفت عليه من الدموع الحارة على قدر ما كان يهديها من حب أبوي صادق وحنان ملائكي رحيم ، حتى ان الزهراء عليها السلام لم تضحك قط بعد وفاة أبيها النبي صلى الله عليه وسلم .
وروي عن الباقر انه قال : ( ما روئيت فاطمة ضاحكة قط ، منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضت ) ، وفي الواقع لولا ان الأب النبي صلى الله عليه وسلم اخبرها بموته وهو حي ، لقضت نحبها حزنا عليه ، ولصدمتها الفاجعة المروعة ، والكارثة الموجعة ، والخطب الأليم ، فقد كانت الزهراء تظن ، وكان أباها لا يموت ، أو لا يموت وهي على قيد الحياة ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك مكانته عندها ، ويعلم منزلته في قلبها ، ويحس مبلغ ما سوف تقاسيه عند فقده ، ومن ثم فقده ، اخبرها بموته وهو حي ، وعزاها عن فراقه وهو موجود ، وبشرها بلقائه القريب في رحاب الله .
روي البخاري عن عائشة قالت : دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته في شكواه الذي قبض فيه ، فسارها بشئ فبكت ، ثم دعاها فسارها فضحكت ، قالت فسألتها عن ذلك ، فقالت : ( سارني النبي صلى الله عليه وسلم فاخبرني انه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت ، ثم سارني فاخبرني إني أول أهل بيته اتبعه فضحكت ) ( اخرج مثله مسلم واحمد وابن
- ص 133 -
سعد وابن ماجة وابن راهوية ) وأخذت الزهراء تهدئ من روعها ، وتسمح دموعها ، حتى لا يراها والدها النبي صلى الله عليه وسلم فيحزنه جزعها ، ولكن أنى لها ذلك ، وهي أمام هول عظيم ، فهذا أبوها وحبيبها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثقل عليه مرضه ، وفتحت له أبواب السماء ، وأقبلت عليه ملائكة الله عز وجل بروح من الله ورضوانه ، تبشره بلقاء ربه عز وجل ، وما أعدله من الوسيلة والدرجة العظيمة والمقام المحمود ، وما يلقاه في الخلد من نعيم مقيم ، فلم يلبث ان صعدت روحه الكريمة الطاهرة المطهرة الراضية المرضية إلى ملئها الأعلى ، والى جوار رب العالمين ، فبكت الزهراء عليها السلام ، وتغشاها الأسى والاكتئاب ، ولذعها الجوى ، وتولتها غصة وفجيعة .
اخرج البخاري عن انس قال : لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه ، فقالت فاطمة عليها السلام ، واكرب ابه فقال لها : ليس على أبيك كرم بعد اليوم فلما مات قالت : يا أبتاه ، أجاب ربه دعاه ، يا أبتاه ، من جنة الفردوس مأواه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه فلما دفن ، قالت فاطمة عليها السلام ، يا انس : أطابت أنفسكم ان تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب
وأخرج الإمام احمد عن انس قال : لما قالت فاطمة ذلك ، يعني ، لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كرب الموت ما وجد ، قالت فاطمة : واكرباه ، قال رسول الله ( يا بنيه انه قد حضر بابيك الله بتبارك منه احد الموافاة يوم القيامة ) .
وروي ان الزهراء أخذت قبضة من تراب القبر الشريف فجعلتها على عينها ووجهها ثم نشأت تقول :
ماذا على من شم تربة احمد الا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها صبت على الأيام صرن لياليا
وقالت على قبره الشريف انا فقدناك كان فقد الأرض وابنها وغاب مذ غب عنا الوحي والكتب فليت قبلك كان الموت صدفنا لما نعيت وحالت دونك الكتب
وروى ابن حجر في فتح الباري عن الطبراني انه روى عن عائشة ان رسول
- ص 134 -
الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة : ان جبريل اخبرني انه ليس امرأة من نساء المسلمين أعظم رزية منك ، فلا تكوني أدنى امرأة منهن صبرا .
وروي انه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع بلال عن الأذان وقال : لا أوذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وان فاطمة ، رضي الله عنها ، قالت ذات يوم : اشتهي ان اسمع صوت مؤذن أبي بالأذان ، فبلغ ذلك بلالا رضي الله عنه فاخذ يؤذن ، فلما قال : الله اكبر الله اكبر ، ذكرت أباها وأيامه ، فلم تتمالك نفسها من البكاء ، فلما بلغ قوله ( واشهد ان محمدا رسول الله ) شهقت فاطمة رضي الله عنها ، وسقطت لوجهها ، وغشي عليها ، فقيل لبلال : امسك قد فارقت ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياة الدنيا ، وظنوا انها قد ماتت ، فلم يتم الأذان فأفاقت ، فسألته اتمامه ، فلم يفعل وقال لها يا سيدة النساء : إني أخشى عليك مما تنزليه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان ، فأعفته من ذلك ) .
وعن الإمام علي قال : ( غسلت النبي صلى الله عليه وسلم في قميصه فكانت فاطمة رضي الله عنها تقول : ارني القميص ، فإذا شمته غشى عليها ، فلما رأيت ذالك منهما غيبته ) .
هذا وقد اعتادت الزهراء رضي الله عنها ، ان تزور الروضة الشريفة ، كما اعتادات ان تزور قبر والدتها السيدة خديجة رضي الله عنها ، في مكة .
وروي عن الباقر رضي الله عنه ، انه قال : ان فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تزور قبر حمزة ، رضي الله عنه ترمه وتصلحه ، وقد علمته بحجر .
وعن رزين قال الإمام أبو جعفر محمد الباقر رضي الله عنه ، ان فاطمة رضي الله عنها كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة ، فتصلي هناك وتدعو وتبكي ، وروى الحاكم في المستدرك عن علي رضي الله عنه قال : ان فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة ، فتصلي وتبكي عنده .